سليمان (مصطفى) زبيس
العواصم الأميرية في القطر الجزائري
خلال العصور الإسلامية
إن القطر الجزائري بلاد حضارة منذ القديم وليس للدلالة على ذلك إلا الإشارة إلى المدن الخطيرة التي ازدهرت في العهد الروماني وقبله كمدينة بونة (عناية) وقسنطينة وتبسة وتمقاد وتيبازة وقيصرة (شرشال) وكثير من غيرها.
ولما بسط الإسلام نفوذه على هذا القطر تغير نوع الحضارة ولكنها لم تنقطع بل استمرت في هذه المدن التي بقيت على حالها وتكونت إلى جانبها مدن جديدة لضروريات جديدة وفيما يلي كلمة وجيزة عن المدن الجزائرية التي تأسست في العهد الإسلامي والتي كانت مركزا لإحدى الدول الإسلامية بالمغرب.
هذا وبعد الإشارة إلى أن أولى المدن الإسلامية التي أسسها العرب في إفريقيا الشمالية هي القيروان التي بناها عقبة بن نافع سنة 50 هـ. نبتدئ بالكلام عن مدينة تاهرت ناهجين في هذه العجالة الترتيب التاريخي.
تاهـرت:
إن مؤسس هذه المدينة هو ابن رستم أحد أمراء القيروان في الفترة التي أصبحت فيها تحت إمرة الخوارج أي أواسط القرن الثاني هـ. فلما عادت إلى حكم السنيين راح ابن رستم عنها على المغرب الأوسط وأسس تاهرت وتسمى اليوم تاقدمت وهي على (12) كيلو مترا من تاهرت الحالية فصارت عاصمة للخوارج لكننا لا نعرف شيئا أكثر مما ذكر عن تاهرت الإسلامية القديمة سوى أن الدولة الرستمية المؤسسة لها قد عاصرت دولة الأغالبة في القيروان ودولة الأدارسة في فاس وإنها زالت معهما عند ظهور الفاطميين واستيلائهم على المغرب الإسلامي وذلك في أواخر القرن الثالث هـ فانتقل أهل تاهرت إلى مدينة سدراته.
سدراته:
توجد آثار هذه المدينة على (600) كيلو متر في الجنوب الشرقي من مدينة الجزائر أسسها الخوارج النازحون من تاهرت لما صارت البلاد تحت الحكم الفاطمي كما ذكر وقد لعبت سدراتة هذه دورا مهما في تزويد أبي يزيد بالإمدادات الحربية لما قام هذه الثائر على دولة الفواطم ودوخ البلاد وذلك خلال الثلث الأول من القرن الرابع هـ. ودامت سدراته إلى موفى الربع الثالث من القرن الخامس هـ. فكانت مدتها قرنين خلا منهما ربع قرن ولم تكن عاصمة دينية فقط بل كانت مركزا تجاريا ذا بال وبالخصوص موطنا ازدهر فيه الفن الإسلامي ازدهارا جليلا كما تشهد به الآثار التي اكتشفت حديثا في خرائبها والتي يوجد بعضها معروضا بمتحف ستيفان قسال بعاصمة الجزائر.
أشيـر:
كل يعلم أن الدولة الفاطمية لم ستقر قدمها في البلاد المغربية إلا بمساعدة قبائل كتامة فلما ثار أبو يزيد الخارجي وتصدعت من أجل ذلك أركان الدولة حتى كاد يقضى عليها بادرت قبائل صنهاجة لمناصرتها وأنقذتها من الهلاك بفوزها على أبي يزيد فلما انتقلت الدولة الفاطمية إلى البلاد المصرية سنة 326 هـ. أمرت على افريقية بلقين بن زيري بن مناد عاهل صنهاجة وكانت عاصمة حكمة أشير التي أسسها أبوه زيري وهي في الجنوب الغربي من مدينة الجزائر على (140) كيلو مترا منها تقريبا ولم ينتقل منها على القيروان بعد ولايته وكذلك أولاده من بعده فقد جعلوا نائبا عنهم في القيروان وظلوا متمسكين بسكنى أشير إلى أن حدث لباديس ثالث الأمراء من بني زيري ما اضطره للانتقال إلى القيروان والاستقرار بها.
ومدينة أشير هذه مدينة بربرية بسيطة متواضعة لم يكن لها ذكر إلا لكونها كانت عاصمة لإمارة صنهاجة ولعل الحفريات الأثرية الجارية الآن في خرائبها سوف تخبرنا عنها بتفاصيل أكثر والجدير بالملاحظة في شأن هذه المدينة أن النويري صاحب موسوعة نهاية الأرب قد أورد في القسم التاريخي من كتابه ما يفيد أن بلقين صاحب أشير قد طلب من الخليفة العبيدي القائم بأمر الله أن يبعث إليه بأحسن ما عنده في المهدية من البنائين ليبنوا له قصورا وقلاعا على شاكلة ما كان يبنى من ذلك في بلاد افريقية.
عاصمة الجزائر:
عمر هذه المدينة في القرن الثاني الهجري قبيلة بربرية اسمها "مزغنى" وكانت في الحقيقة مجموعة مداشر بسيطة إلى أن أمر زيري بن مناد ابنه بلقين بتمصيرها سنة 362 هـ. ثم أن يوسف بن تاشفين أبرز ملوك الدولة المرابطية فتحها في اواخر القرن الخامس هـ. فبنى لها سورا ومسجدا جامعا وهو الموجود اليوم ومن الصدف الحسنة أن هذا المسجد لم تدخل عليه غير تغييرات جزئية بحيث هو الآن على حالته الأولى مع ملاحظة أن الصومعة قد أعادها وأكسبها شكلها الحالي أبو عنان من ملوك بني مدين وذلك أواسط القرن الثامن هـ.
وظلت مدينة الجزائر تابعة للدولة المرابطية حتى ظهرت دولة الموحدين فألحقت بمملكتهم.
قلعة بني حماد
واثر انتقال باديس إلى القيروان ثار عليه أخوه حماد فحاربه باديس ومات وهذا ولم يعد حماد إلى الطاعة كما أخفق سعي المعز بن باديس في اخضاع عمه فتفرق بذلك بنو زيري إلى فرعين فرع بني باديس مركزه القيروان وفرع بني حماد مركزه قلعة بني حماد وهي على (150) كيلو مترا تقريبا من جنوب بجاية وكانت قرية غاية في البساطة إلى أن استولى الأعراب من بني هلال وسليم على القيروان فنزح معظم أهلها إلى القلعة فكبر بذلك شأنها وسريعا ما صارت القوافل تقصدها من العراق والشام والحجاز ومصر ومن جميع النواحي الأخرى.
ونمت ثروة أهلها فجعلوا يشيدون المباني الفاخرة يؤثثونها ويزخرفونها بأنواع المؤثثات والمزخرفات وأفخرها كما يشهد بذلك مجموعة التحف الموجودة بمتحف ستيفان قسال بعاصمة الجزائر وكثرت فيها مظاهر الترف والرفاهية حتى اعتراها الفتور فخرج عنها مقاليد السيطرة على الطرق والسوابل فصارت في أيدي الأعراب فلم يجد أصحاب الدولة وسيلة للخلاص من الخناق إلا بالانتقال إلى بجاية عاصمة جديدة لدولتهم.
بجاية:
اتخذها بنو حماد عاصمة ثانية سنة 484 هـ. غير أنهم لم يتركوا قلعتهم نهائيا إلى بعد أربعين سنة وأصبحت بجاية مركزا لدولة مستبدة على الجانب الأوسط من الشمال الافريقي برا وبحرا بل امتد سلطانها في بداية القرن السادس هـ. حتى إلى تونس والقيروان إلى أن فتح عبد المؤمن بن علي كامل المغرب الإسلامي فدخلت بجاية كغيرها من الدويلات المنشقة عن دولة بني زيري الصنهاجية تحت سلطان الدولة الموحدية وذلك سنة 552 هـ.
تلمسان
لم يكن لهذه المدينة ذكر حتى أصبحت عاصمة لبني عبد الواحد وذلك سنة 633هـ. وقد كان أمرها من قبل إلى صنهاجة ثم إلى الموحدين وبني عبد الوادي وهم قبيلة من الرحل قد فازوا بإنشاء مملكة ذلك أنه لما هزلت دولة الموحدين وتفككت أواصرها انقسمت إلى ممالك ثلاث في الثلث الأول من القرن السابع مملكة للحفصيين في تونس ومملكة للمرينيين في فاس ومملكة لبني عبد الوادي أو بني زيان بتلمسان وكان موقع هذه الدولة الأخيرة من أحرج المواقع لوجودها بين دولتين طموحتين تواقتين إلى الانتشار لاستعادة النفوذ الشامل على كامل المغرب أي احياء مملكة الموحدين الراحلة، تحت لواء تونس أو تحت لواء فاس فقد تداول على تلمسان بالمنازعة والشغب والحرب والحصار الحفصيون من جهة والمرينيون من جهة أخرى وضيقوا عليها واستمروا على ذلك مدة تجاوزت القرن.
قلنا تلمسان لم يكن لها ذكر كبير قبل بني عبد الوادي إن ذلك لصحيح إذا اعتمدنا كتب المؤرخين ولكن الآثار الموجودة بها تفيد غير ذلك فإذا تأملنا من جامعها الكبير وجدناه من مؤسسات يوسف بن تاشين مثل جامع عاصمة الجزائر وهذان الجامعان اثنان – ثالثهما جامع القرويين بفاس – من المؤسسات الفريدة في بابها التي تمثل الفن الإسلامي في ذلك العصر عصر المرابطين الذي ما زال حوله الغموض وهذه مزية عظيمة امتاز بها القطر الجزائري إذ يحتوي على مثل هذه الآيات الفنية وعلى مثل هذه الوثائق التاريخية التي تفيد العلم إفادة عظيمة.
وبتلمسان – إلى جانب الآثار المرابطية القيمة آثار جليلة من مؤسسات بني مرين أبرزها مسجد أبي الحسن الذي صار اليوم متحفا وهو من أجمل التحف التي صاغها الصانع الجزائري بل البشر على الإطلاق ومن الغريب أن بني زيان لم يتركوا لنا شيئا من آثارهم فلعلها محيت من قديم. محاها المرينيون.
المنصورة:
مدينة المنصورة على أربعة أميال غربي تلمسان تقريبا وهي اليوم خربة لم يبق منها إلا سورها وسور جامعها وجهة فقط من أربع من منارة الجامع. والمنصورة بناها أبو يعقوب المنصور المريني سنة 698 هـ، لمنازلة تلمسان لما طال عليه حصارها ولم تنزل عند أوامره وتركت بعد ذلك بقليل فسريعا ما داهمها التخريب.
ولنتوقف عند هذا المقدار وهو كاف
أولا للبرهنة على أن التراب الجزائري هو موطن حضارة منذ القديم وأن هذه الحضارة لم تنقطع منه بل أنها ازدهرت بصفة ممتازة في العصور الإسلامية
ثانيا للإشارة أن هذا القطر له – إلى جانب الآثار القديمة الفنيقية والرومانية والبيزنطية الجليلة القدر – آثار إسلامية هي وليدة الآثار الأولى وجامعة لها وحاوية لجميع مزاياها وبعبارة أخرى فهي حلقة متأخرة من سلسلة متصلة الحلقات متينة الارتباط من نتائج القريحة البشرية فضل الله بها بالقطر الجزائري الشقيق فلأجل ذلك كانت الآثار الإسلامية هذه خليقة بأن يعتني بها عناية لائقة بمقامها.
ولكن الأقدار شاءت أن يطمس جلها فتحولت المساجد إلى غير ما أعدت له ومحيت معالم التمصير العربي في المدن والقرى وغيرت أسماء هذه المدن والقرى العربية فصارت أعجمية كأن مثل هذه السخافات وهذه المحاولات الصبيانية كافية لأن تفصل نهائيا بين ماضي الجزائريين الحافل بالمجد وبين حاضرهم المكلل بالفخار. وفي بطولة أخواننا الخارقة ما فيه الدليل الدامغ على أنهم لم يرضوا بأن يكونوا لحظة إلا الأبناء البررة لأسلاف أماجد قد كانوا أساتذة الغرب في العلوم والفنون، ومثال الحكمة والحصافة والرشد في السياسة، ومثال الرجولة والفحولة والبطولة والمروءة في الحرب.
|