سليمان (مصطفى) زبيس
الفن الإسلامي التونسي
في عهد الأمراء الأغالبة
من المعلوم أن الفن الإسلامي لم يزدهر في عموم الولايات الإسلامية شرقا وغربا إلا في القرن الثالث الهجري فهذه مدينة سامراء بعد بغداد يشيدها الخلفاء من بني العباس ويقيمون بها القصور الشامخة الفاخرة فيصبح ذلك سنة تتبع ومثالا ينسج على منواله كل من كان له شأن في الأصقاع الأخرى ذلك أن ابن طولون رغب عن الفسطاط فبنى مدينة القطائع كما أن التعمير والإنشاء كانا نشيطين جدا في الأندلس فقد زيد في جامع قرطبة لضيقه بالمصلين وبنيت القلاع وانتشرت في الثغور لإقرار الأمن من غارات النصارى ولكن هناك ولاية فاق التعمير فيها سواها وهي إفريقية – أي المملكة التونسية – فقد أقبل الأمراء الأغالبة بها على تعمير البلاد بالقصور والمساجد والجسور والأسوار والقلاع والأبراج والرباطات وأشغال الري إقبالا لم يعرف مثله من ذي قبل وتأنق مهندسوها في أحكام بنيانها واتقان منظرها مما جعلها من أبرز النماذج التي تمثل الفن الإسلامي في القرن الثالث الهجري.
وحين يسفر البحث على أن مثل هذه المعالم أضمحلت أو تحولت تماما عن إشكالها الأصلية في العراق ومصر والأندلس يلوح لنا أن معظمها ما زال موجودا في البلاد التونسية وأنه لم ينحرف عن أوضاعه الأولى كجامع القيروان وجامع الزيتونة بتونس وجامع سوسة ورباطها وسورها إلى غير ذلك مما سنتحدث عنه تفصيلا فيما بعد.
كل يعرف أن إفريقية حينما ولي أمرها إبراهيم بن الأغلب كانت يسودها الاضطراب والفوضى من تعاقب ثورات وهرج الجند العربي المتمرد فكان شغل الدولة الشاغل في بداية أمرها العمل لإقرار الأمن والنظام فتم لها ذلك بإقامة القلاع عند جبال البربر مثل بلزمة وتبسة وطبنة وجعل من هذه السلسلة سدا أمام زحفهم العارم ثم استراحت من هرج الجند بتوجيهه إلى صقلية ففتحها لها فعاد عليها الفتح بخيرات لا تحصى أعانتها على البناء والتشييد وبعث نهضة اقتصادية وفنية وعلمية كانت البلاد في حاجة إليها ولقد اقتضى فتح صقلية بناء المحارس والمراقب والرباطات والقلاع على الشواطئ كأمكنة لتجمع المرابطين لحراستها فاكتسبت البلاد بذلك حصانة ومناعة جعلتها في مأمن من غارات النصارى وعبثهم وقد بقي من هذه المعالم عدد لا بأس به لم يأت طول الزمان على مظهره الأغلبي الكامل كقصر الرباط بسوسة وقصر لمطة وقلعة قليبية ومحرس سيدي هلال بدار شعبان، وأدار الاغالبة الأسوار الشاهقة حول المدن بالخصوص حول الساحلية منها كسوسة وصفاقس.
وكان لفريق العلماء من أهل السنة مكانة عظيمة عند الناس وكان الأمراء يهابونهم ويحسنون معاملتهم ويعملون بإشارتهم رغبة في ترضيتهم فكانوا يبالغون في إقامة المساجد متكلفين في بنائها وزخرفتها باذلين الأموال الطائلة في سبيلها وقد وجدوا في "الأفارقة" وهم سلالة سكان البلاد الأصليين ممن ورثوا تلك الفنون والصناعات التي نشاهد آياتها الرائعة في المعالم الأثرية الرومانية - فقد وجد الأغالبة في هؤلاء المساعدين المهرة الأفذاذ من أعانهم على إتحاف هذه البلاد بمجموعات فنية انفردت بها اليوم عن سائر الممالك الإسلامية كقبة المحراب بجامع القيروان ومحرابه المنقوش المخرم وكساء واجهته بالزليج ذي البريق المعدني ومنبره المتركب من نحو ثلاثمائة قطعة انفردت كل واحدة منها يضرب من الزخرفة وكذلك قبة المحراب من جامع الزيتونة ومنبرها وقبة المحراب القديم من جامع سوسة وكذلك واجهة مسجد ابن خيرون المعروف بجامع ثلاثة بيبان بالقيروان وغيرها كثير.
وكان الأغالبة في أول أمرهم يقيمون داخل القيروان في قصر الإمارة القريب من الجامع فاقتضت سياسة إبراهيم بن الأغلب إزاء كثرة هرج الجند أن ينتقل خارج المدينة حيث أقام قصر أسماه العباسية وشهر بالقصر القديم وأودع فيه ذخيرته وعتاده وأسكن به حاشيته من الثقات وانتشر البناء حول القصر إلى أن آل الأمر إلى ظهور مدينة كانت أولى المدن الأميرية الأغلبية إلى أن صار الأمر إلى إبراهيم الثاني فأسس مدينة رقادة العظيمة وجعلها مقرا جديدا للدولة وبها نزل وأقام عبيد الله المهدي بعد انكسار آخر ملوك الأغالبة إلى أن بنيت المهدية فغادر رقادة إليها.
ومن سياسة الأغالبة الرشيدة المبنية على حبهم للخير وإقبالهم على ما فيه صالح الرعية تجهيز البلاد بمجموعة من أشغال الري كان لها أحسن الأثر في بلاد معطشة كان مصيرها مرتبطا بالغيث في حين كان هذا الغيث غاية في انحراف التوازن في الكم وفي أزمة النزول فحفروا الآبار وبنوا البركات والمواجل والصهاريج وجلبوا إليها المياه من العيون وسفوح الجبال والأودية وذلك في القنوات وعلى ظهر الحنايا وآثار هذه الأشغال مازال ظاهر إلى اليوم كفسقية الأغالبة في القيروان وفسقية مساكن وفسقية المردين والصفرة بسوسة، وغيرها موجود بكثرة في وسط المملكة بالخصوص.
ففي الطريق من القيروان إلى صفاقس مازال المسافر يمر على بقايا الفسقيات والمواجل العديدة فليس من المبالغة حينئذ أن كان المؤرخون قبل القرن السادس الهجري يصفون هذه الأراضي بالجنات لكثرة ما كان فيها من الماء فقد كانت الفلاحة في ضواحي القيروان تشمل البرتقال وقصب السكر. ولئن أصبحت اليوم هذه الأراضي الخصيبة أراضي قاحلة جدباء اكتسحتها الرمال وحالفها الجفاف فإن ذلك نتيجة الأعمال الهلاليين التخريبية لا حالة طبيعية لذا فإن معالجة هذه الحالة ممكنة ميسورة فما علينا إلا أن نبحث عن آثار أشغال الري القديمة فنرممها ونعيدها إلى الاستعمال ونكثر منها حتى تجمع المياه التي تذهب سدى إلى البحر في كل عام منذ قرون طويلة وينتفع بها لاحياء مساحات شاسعة من التراب القومي وتغذية جانب من السكان ليس بالقليل هم اليوم ضحية المسغبة والجوع.
هذه كلمة موجزة عن الفن المعماري التونسي في عهد الاغالبة وقد تناول المعالم الدينية والمعالم المدنية وأشغال الري وسوف نتحدث عن هذه المعالم واحدا واحدا حتى نتعرف إليها ونقدر لها قيمتها الفنية والتاريخية فنتعلق بها وننتصب خصوما لمن يشوهها أو يعتزم مسها بمكروه فهي ثروتنا المعنوية وعنوان مجدنا القومي وذخيرتنا الثقافية في المستقبل. |